ناجي شاكر| عطاء فنان

ولد د.ناجي شاكر في حي الزيتون بالقاهرة في16 فبراير عام 1932 و ولدت معه العرائس في مصر. فهو أحد رواد مسرح العرائس و أول من أمتعنا بأعمال عبقرية , أهمها  المسرحية الساحرة ذات العرائس الخشبية التي أدخلت البهجة على قلوبنا  "الليلة الكبيرة". جلسنا في إحدى غرف مكتبه المحاطة  باللوح و الكتب و الاوراق في كل زواياها, و على مدار ساعتين حكى لي د.ناجي عن مشوارة في مختلف مجالات الفن من مسرح و سينما و ديكور و كواليس أعماله مع مجموعة من عباقرة الفن مثل صلاح جاهين, سيد مكاوي, يوسف شاهين و سعاد حسني.

بدأت تظهر موهبته في حوالي الثامنة من عمره, فكان يقضي وقت طويل في المنزل و يتغيب عن المدرسة  بسبب مرضه الدائم, و في تلك الايام كان يقوم برسم اللوحات و تعليقها على الحائط مكوناً معرض صغير بغرفته. عندما لاحظت والدته موهبته أخذته للرسام الايطالي "كارلو مينوتي" الذي اعجب كثيراً بموهبته و قرر تعليمة بدون مقابل مادي. يذكر د.ناجي "مينوتي كان اطرش و بيتكلم ايطالي بس, كان يفضل يكلمني بالايطالي لحد ماتعلمته منه" و ظل معه د.ناجي حتى دخوله الكلية. و لكنه ذهب ايضاً لأستاذ بلجيكي, و مدرسة ليوناردو دافنشي التي تعلم فيها على يد الاستاذ الفرنسي "دافورنو" لكي يستكشف مدارس فنية اخرى.
لم يكن د.ناجي الفنان الوحيد بالعائلة, فكانت والدته تعزف العود و يغني والده في كورال الاوبرا مع الفرق الايطالية. و لكن عندما قرر ان يلتحق بكلية الفنون الجميلة عارضته العائلة قائلين لوالدته "يطلع فنان ازاي؟ عشان يموت فقير؟" و لكنها ساعدته على تحقيق حلمه و بالفعل التحق بالكلية.

و عندما وصل د.ناجي لتنفيذ مشروع التخرج  قرر ان يكون عن العرائس, فكانت العرائس ساكنة  في عقله الباطن منذ كان يبلغ من العمرخمسة أعوام. تعرف عليها عن طريق مربيته "روحية" التي كانت تصنع العرائس الورقية لتحميه هو و اخوته من الحسد و كانت تروي لهم قصص مثل "عقلة الاصبع" و "ست الحسن و الجمال". من هنا إستوحى د.ناجي فكرة مشروعه "عقلة الاصبع". لم يكن فن العرائس موجود حينها في مصر فلاقى د.ناجي هجوم شديد من أساتذته الذين اعتبروه مجنون بقولهم " انت مجنون؟ ايه العرايس دي؟ دي للعيال". و لكن أصر د.ناجي على تنفيذ مشروع العرائس و قام بتصميم الشخصيات و الديكور و تنفيذ فيلم قصير مدته دقيقتان. و حين انتهى د.ناجي من التنفيذ اعجب به الاساتذه  و حاز على درجة امتياز.

و من هنا شق د.ناجي اول طريقه لوضع بصمته في مسرح العرائس المصري, فبعد تخرجه من الكلية بحوالي عام قررت الحكومة إنشاء مسرح للعرائس مستعينة بخبيرات رومانيات, و لحسن الحظ كان مدير الاوبرا "محمود النحاس" قد رأى مشروع د.ناجي و رشحه ليكون من احد مؤسسي المسرح. أول عمل تم تنفيذه كان مسرحية "الشاطر حسن" التي جمعت د.ناجي شاكر بالعبقري صلاح جاهين و وصفه قائلاً " صلاح ده تحفه, أول مرة جه المسرح اعجب بالعرائس جداً لدرجة انه بدأ يتعلم تحريكهم" و يضيف " كان شخصية مبهجة و نشيطة و متحركة, يرقص باليه و يلعب بيانو. رغم تخنه كان خفيف الدم والحركة".

 بعد انتهاء عمل الخبيرات الرومانيات و عودتهم لرومانيا طالبوهم بتمثيل مصر بالمهرجان الدولي للعرائس في بوخاريست  و في هذة اللحظة قفزت "الليلة الكبيرة" في عقل د.ناجي على الفور. فيحكي لي قائلاً " كنت بسمع الليلة الكبيرة في الإذاعة و أنا في الكلية كان عملها صلاح و سيد في صورة غنائية مدتها عشر دقايق وشوفت انها مناسبة لأنها مصرية جداً" و عندما عرض د.ناجي الفكرة على صلاح جاهين كان رده "ده مولد يا ناجي! تعمل مولد ازاي؟ ده فيه ناس كتير و عرايس كتير" و لكنه اقتنع بعد ذلك و بدأوا العمل. فكان يصمم د.ناجي العرائس و يؤلف صلاح الكلمات و يقوم بتلحينها سيد مكاوي حتى تم الانتهاء منها في غضون شهرين فقط و كان أول عرض لها في مهرجان بوخاريست و فازت "الليلة الكبيرة" بالمركز الثاني عن تصميم العرائس و الديكور.  و لكن لم تنتهي قصة الليلة الكبيرة هنا, فيكشف لي د.ناجي عن قصص وراء بعض العرائس, فعروسة رجل النشان الذي كان يغني "فتح عينك تاكل ملبن" بينما كان يعمل عليها د.ناجي و رأى ان الشخصية "تخينة و مبقلظة " قرر على الفور ان تكون ملامح الشخصية كملامح صلاح جاهين. و عندما اتى صلاح للمسرح هو و سيد ميكاوي عرضها عليه و كان أول تعليق له " ايه ده؟ ده أنا, ده جميل قوي" و أعطاها لسيد لكي يراها فتحسسها بيده قائلاً " والله شكلك بالظبط يا صلاح". و عندما سألته عن أصعب عروسة قام بتصميمها رد قائلاً "الرقاصة بتاعة طار في الهوا شاشي, كنت عاوزها تعمل حركة معينة" فعمل د. ناجي أول نسخة من العروسة و لم تنجح فعمل على نسخة اخري حتى وصل للحركة المرغوب فيها و لكن كان لابد ان يقوم 3 أشخاص بتحريكها معاً.

تمثل العرائس جزء كبير من حياة د.ناجي شاكر و خاصة ريحانا "حبي الكبير" كما يصفها د.ناجي. بعد انتهاء د.ناجي من العمل بالليلة الكبيرة, سافر في منحة الي المانيا ليدرس مسرح و عرائس و لكنه قطع دراسته عائداً لمصر عندما تم استدعائه للعمل على مسرحية "حمار شهاب الدين". أرسلوا لد. ناجي السيناريو أثناء تواجده بالمانيا فأعجب به على الفور موضحاً "عجبتني لأنها مسرحية بتمثل البنت المصرية الفقيرة الي عندها رضا و مبسوطة رغم الفقر" و يصف شخصية شهاب الدين بالانسان المحب الصادق. و يكمل د.ناجي كلامه عن المسرحية قائلاً "عجبني ان فيها جانب سياسي بينتقد الفساد اللي في المجتمع".
بدأ د.ناجي العمل على التصميمات اثناء تواجده في المانيا و قام بتنفيذ عروسة ريحانة و شهاب الدين ايضاً وعندما قمت بسؤاله عن سر حبه لريحانة, اجاب قائلاً "حبيت ريحانة قوي لأني قعدت معاها 3 شهور انفذها حته حته, و اتكلم معاها و اخد رأيها في لبسها كمان. كانت علاقه حميمه جداً لأني بخلق شخصية و بتتكون قدامي يوم ورا يوم لحد ما عشقتها."
 
لم يتوقف عطاء د.ناجي شاكر عند مسرح العرائس فقط, فكان للسينما حظ ان تتمتع بجزء من فنه و جنونه. على الرغم من عمله على فلمين فقط و لكنه ترك بصمة قوية في السينما المصرية. فالأول كان الفيلم التجريبي "صيف 70" الذي انتجه  في ايطاليا. سافرد. ناجي لايطاليا بعد هزيمة 1967 و انحضار مستوى المسرح ليدرس سينما في المعهد التجريبي للسينما. و بعد عامين من الدراسة و الاطلاع قرر هو و زميلة الايطالي "باولو ايسايا" انتاج فيلم تجريبي. يحكي لي د.ناجي اول تجربة سينمائية له قائلاً " مكنش معانا غير كاميرا و حامل و لمبتين" استعانوا بفتاة ايطالية الاصل تعيش في نيو يورك لتكون بطلة فلمهم الصامت و عندما سألت د.ناجي لماذا هذه الفتاه؟ اجابني "كانت بتشتغل ممرضه في نيو يورك و جايه ايطاليا تبحث عن هويتها, فحسيت انها تايهه زينا." قاما كل من د.ناجي و باولو بتصوير فيلم مستقل لنفس الفتاه ثم جمعا الفيلمان معاً بمساعدة "رينزو روسيليني" نجل أحد أهم مخرجي ايطاليا "روبرتو روسيليني" الذي وفر لهم المعامل و الاجهزه اللازمه للانتهاء من الفيلم ليصبح من كلاسيكيات السينما التجريبية المصرية. و بعد أكثر من 40 عاماً في عام2010 يتم اختياره ليعرض في متحف الفن الحديث بنيو يورك من ضمن عرض لأهم الأفلام التجريبية بشمال افريقيا.

أما فيلمه الثاني فكان ينتظره عند عودته من ايطاليا, فهو أحد أهم أفلام السينما المصرية, يجمع بين مجموعة من عباقرة السينما سعاد حسني, أحمد زكي, صلاح جاهين, أحمد مظهر و المخرج يوسف شاهين. "شفيقة و متولي" أخر محطة لد.ناجي شاكر مع السينما و لكن ربما تكون أهمها. بدأ د.ناجي في تصميم ديكورات و ملابس الفيلم, و لكنه بدأ بشخصية شفيقة التي كانت تجسدها سعاد حسني و يتذكر د.ناجي انه كان خائفاً من العمل معها لأنها نجمة و مشهوره  وفي أول لقاء بينهم عرض عليها تصميمات الشخصية فصدمت قائلة "ايه يا ناجي ده؟ انت حتلبسني جلابية تدخل 3 سعاد حسني؟" فرد عليها "أنا مش عايزك تطلعي سعاد حسني, أنا عايزك تطلعي شفيقة" و طلب منها د.ناجي ان تجرب الجلابيه و بروكة الشعر المنكوش لمدة اسبوع بالمنزل حتى تتأقلم عليهما. و بعد اسبوع وافقت عليهم. يتحدث د.ناجي عن سعاد باعجاب شديد " كانت فنانة و بسيطة و طيبة جداً, متتصورش ابدأ ان دي سعاد حسني بس أول ما تقف قدام الكميرا تتحول لغول." و يحكي لي عن بعض ذكرايتهم قائلاً "كنا ساعات ننزل نتمشى في شوارع وسط البلد الناس متخدش بالها ان دي سعاد حسني من كتر بساطتها." و يتغزل د.ناجي في موهبتها و عبقريتها الفنية فيحكي لي عن احدى مشاهد الفيلم و هو مشهد اغنية "بانو بانو" فكان اوردر التصوير في التاسعة صباحاً و الجميع جاهز في الاستديو في انتظار سعاد حسني التي تأخرت حتى الساعة الواحدة ظهراً عندما ابلغت انها قادمة و تريد من المخرج ان يشغل الكاميرا مع لحظة دخولها "دخلت من أول لقطة بتغني, الاغنية دي كانت صعبة جداً تستغربي ازاي عملتها بالعبقرية دي." مر الفيلم بظروف صعبة و تبدل عليه المخرجين حتى تم الانتهاء من العمل عليه و حصل د.ناجي على جائزة بالمهرجان القومي للسينما عن الاشراف الفني و تصميم الديكور و الملابس.
كان يوسف شاهين  مخرج فيلم "شفيقة و متولي" لكن لم يكن هذا العمل الوحيد الذي جمع بينهما, فقد طلب يوسف شاهين من د.ناجي العمل معه على فيلم "اسكندريه ...ليه؟" و لكن اعتزر د.ناجي عن الفيلم لأنه كان يحتاج الى دراسه و تحضير كثير و كان يرغب يوسف ان يبدأ في تصويره خلال عشرة أيام. لكن بعد ثلاثة أشهر طلب يوسف من د.ناجي ان يكمل الفيلم معه لحدوث مشاكل مع المدير الفني الذي جاء به بدلاً من د.ناجي, فوافق د.ناجي لكن بشرط الا يوضع اسمه على الفيلم. و قام بعمل بوستر الفيلم ايضاً. و بعد مرور عشر سنوات طلب يوسف من د.ناجي تصميم بوستر فيلم "المصير" و من بعده فيلم "الأخر." يصف د.ناجي يوسف شاهين بأنه شخصيه عبقرية و منفرده و يتمتع بعين سينمائية جداً.

لم يعمل د.ناجي في السينما بعد ذلك و حتى الان مازال يعمل كأستاذ بكلية الفنون الجميلة, قسم الديكور, شعبة الفنون التعبيرية الذي هو أحد مؤسسيها, فكان في البدايه يقوم الطلبة بدراسة العمارة الداخليه فقط بقسم الديكور, لكن في السبعينيات فكر د.ناجي في تأسيس شعبة الفنون التعبيريه و عرض الفكره على احد اساتذته, دكتورعبد الفتاح البيلي, الذي اعجب بالفكرة على الفور. ظل كل من د.ناجي و د.البيلي حوالي عشر سنوات في حرب مع الجامعة و قاموا بوضع المنهج حتى قامت الجامعه بالموافقه عليه عام 1980.

و في نهاية لقائي بالفنان الدكتور ناجي شاكر سألته عن الرسالة التي دائماً يوجهها لتلاميذه, فقال "دايماً بقولهم انتوا مهمين جداً لأن كل أهل الفن في العالم اللي بيقوموا بتطويره في سنكم, واللي بيغيروا الفن هما الشباب. و وجودي معاكم فيه تبادل بيننا, أنا اديكم الخبرة و أنتم تدوني الطاقة و الحيوية." و بهذه الكلمات انتهي لقائي مع المبدع العظيم الدكتور ناجي شاكر, المستمر دائماً في العطاء.  

Comments

Popular posts from this blog

Syria | Hope in the midst of despair.